22 فبراير 2009

قصيدة الحواس والذاكرة المتّهَمة

الشاعر سالم العوكلي بعدسة أحمد يوسف عقيلة

جمعة عبدالعليم .. ذاكرة ملحة تقف على مرمى أسئلته الدائمة .. سيل من البوح الطفولي ينحت مجراه كيفما شاء وخوف لا يخفت من غابة المكان وغابة الشعر .. ضراعة (أنا) مرتبكة تُصدّر قلقها إلى مسطرة اليوم الملقاة حسب خطوته .. شكّل ضمن مجموعة من الشعراء صوتاً شعرياً يحاول أن يجانب السائد ويتلمس خصوصيته .. عاش في قرية جبلية يشطرها الطريق العام إلى ضفتين .. حيث الآخرين وجوه عابرة خلف زجاج العربات لا تفشي عن ملامحها .. وكتل تمضي سريعاً تاركةً عوادمها وضجيجاً لا يخفت إلاّ مع الظلام .. وهكذا هي قصيدته محاولة لمسح الضباب عن الوجوه المسرعة .. وجوه بلا ملامح تتراكم في قصائده وتمضي سريعاً تاركةً ضجيجها .. هكذا قصيدته مكابدة مُرّة لعجز غامض ، عجز ليس وليد ضعف .. لكنه وليد تأمل بطيء يتشابك مع رغباته وأحلامه العصية (بيت دعائمه من ديون) أو (مراوغة عبء العائلة) ، عجز فجائعي حيث الحالة الشعرية المتوهجة وكثافة اللحظة عصية عن اللغة أحياناً وأكبر من الفعل ..
وأنا أظمّك الليلة لى صدري)
(أدرك عجز العناق
فعل الإدراك هنا يأتي مناهضاً للوعي بالحالة .. هل ثمة فعل يمكنه أن يستجيب لكثافة الموقف ؟ أو هو (تباطؤ) الحواس الذي يبتز الكلام .. ويذيب الدفق الشعوري على حواف الانتباه المغاير ، هناك ما هو أكبر من متناول الإمكان ـ له بدايته الممكنة التي تموت بمجرد أن تستجيب اللغة ، وينفجر الكلام ، إذاً :
فـ ( لحظة اشتعال النار
ينطفئ الثقاب )

هناك جدل دائم بين مكابدة جمعة عبدالعليم للواقع ومكابدته للكلام .. بمعنى مكابدته للقصيدة .. جمعة عبدالعليم الذي كان يُفرح عائلته بإعلان استقالته من الشعر .. ليعود كل مرة أكثر إصابة به .. مثلما يعود المدمن إلى التبغ .. متردداً يلج عالم الشعر .. متردداً يخرج من القصيدة متبرئاً من أي إجابة أو قصد ..
(هذا الكلام الجموح
كلما حاولت اعتلاءه
هزّ رأسه العنيد
وسار على عواهنه)
عجز فادح تجاه ترويض اللغة .. اللغة التي تنفلت منه وتمضي دون لجام .. هل يحاول الشاعر هنا أن يعطي مبرراً لما يعيب بعض قصائده من الاسترسال المفرط .. والركض وراء إغواء الصور والإمعان في ممارسة لذة التذكر ، كل هذا الذي يعطي قصائده ظاهرها الوصفي الذي ربما وبامتياز ما تتركه في دواخلنا من دهشة سنحاول أن نبحث عن سياق تجاوري لهذا الوصف ليهبه بعداً رأسياً وجمالياً سيكون على المتلقي أن يحاول اكتشافه وبالتالي سيكون من مسؤوليته أن يعيد إنتاج النص من جديد ..
إذا ففي بعض قصائد جمعة عبدالعليم والتي تنفلت من الوصف المباشر يمكننا أن نكتشف مستويات عدة لقراءة النص ، ولنأخذ مثلاً قصيدة (رتابة) :
(كانت الشمس قد سافرت
وتركت أصابعها
فوق قبة السماء
نجوم تتباهى بأزيائها
وقمر خجول يجتر الفتات
في الصباح ..
تسللت بهدوء
لتضبط الحادثة
انطلقت صفارات الديكة
فسلم القمر نوره المسروق
ولاذت النجوم بالهرب
في المساء …
أخذت حماماً دافئاً
قبل أن تعود من جديد
تاركةً أصابعها ..
فوق قبة السماء )
في هذه القصيدة التي يغادر بها الشاعر ألفة المكان وجزئياته المحددة متتبعاً عبر نفس سردي دراما الأفق عبر تجلياته متأملاً فرشاة الشمس وهي تلون نهاية اليوم .. تسافر الشمس كعادتها .. ولا يبقى فوق السماء سوى أصابعها .. يمر الليل .. وفي يوم آخر تعود الشمس من جديد إلى لوحتها .. وتمضي .. ولا يبقى سوى أصابعها . هل افلح الشاعر في أن يوهمنا بأنه يلوذ بحالة رومانسية .. وأنه بعيد عن الواقع ؟
انطلاقاً من عنوان القصيدة (رتابة) فإن هذا المشهد اليومي يعكس سيرة ذاتية للشاعر الذي يتآكله تكرار المشاهد .. والتي كما تجيء تغيب باستمرار .. ولا يبقى هناك سوى الأصابع على قبة السماء .. أصابع الرسام على لوحته .. أصابع الشاعر على ورق القصائد .. لا يبقى سوى الكتابة ففي قصيدة (مفردات من الليل والاحتجاج) :
(الألوان التي تخلفت عن الشمس
لحظة الغروب
تقاربت
تباعدت
اختلطت
تبددت
ثم صارت دروباً
أمام مواكب الظلام)
القرية كمكان مفتوح على الجهات كلها ارتبطت بعلاقة حميمة مع الأفق بكل أثاثه ، وانفجار المكان عند الشاعر مساحة أكبر للمخيلة وللغة تتعرّى من مكتسبها وتتنطح لقول العالم كلّية .. لتهذي بما يعتري ذات المنشئ .. وهذا ما سوف يمنح الشاعر منفىً لرؤيته ورؤياه .. وقناعاً لما يعتريه من وجع ومعادلاً موضوعياً لإشكالياته في الواقع .. حيث يتم فتح الحواس على الخارج والأهم من ذلك يتم الإبطاء من سير هذه الحواس ..
يقول (كولون ولسون) : ( الفارق الأساسي بين الشعر والنثر ليس قضية الشكل بقدر ما هو المحتوى فالنثر على الدوام مسرع ليبلغ مكاناً ما ، أما حين تكتب أو تقرأ القصيدة فإنك بصورة أوتوماتيكية تخفف من سرعة نشاطك العقلي إلى وتيرة تعرف أن بمقدورها وحدها أن تخلف أثراً إذا كان العقل مسترخياً ) .
لذلك فما يمكن أن نمر عليه مرور البخلاء في مشهد الغروب .. يتأمله الشاعر بكرم حسي كفعل تشكيل تختلط فيه الألوان وتتباعد ثم تتبدد وتصبح دروباً أمام مواكب الظلام .
وعلى مستوى آخر هل يمكن أن نفصل هذا عما يحدث داخل الشاعر نفسه ؟ .. حيث تبدد الألوان ومواكب الظلام مؤشر على حال من العجز ما زالت تراود أسئلة الشاعر التي كثيراً ما يلقيها ويمضي ، إنني هنا أحاول أن أطارد شيئاً في هذه القصائد المراوغة وأجد نفسي تائهاً أحياناً ومنهمكاً وكأنه يصيبني بعدوى العجز .. ولكني معه سأحاول أن أسرب إليكم هذا العجز الإشكالي الجميل وهذا التيه المتسائل بدل الأجوبة الجاهزة .. واليقين المقيت ..
(يحدث أن أقول كلاماً غريباً
ليصبح القول غاية القول
يحدث أن أشهر السؤال الفارغ
في وجه أكذوبة الأجوبة)
وليكن السؤال فارغاً .. يكفي أنه سؤال . والذي هنا ربما ينقلنا من دائرة العجز إلى فضاء آخر .. إنه يفضي بالشاعر إلى إحساس بالعبث .. وإليكم ما قد يسعف :
(لا تهتموا كثيراً لما سأقوله الآن
فما سأقوله لا يتعدى مجرد القول)
أو
(حين ينتهي عبث المشاوير
تبدأ رحلة القمر)
أو
(كما لو أن الفراشة
تهب جناحيها
لجحود النار
والمطر ينزف لمزيد من الوحل)
هذه الأشياء تفقد منطقها ومعناها .. اللغة عاجزة .. والفعل لا يفضي إلى شيء والأسباب واهية نسبة إلى ما تفضي إليه كأن يرتكب غريب (ألبير كامو) جريمة قتل لأن الشمس كانت عمودية ، أليس هذا ما نعتقد حتى الآن أنه جوهر العبث ، وفي مستوى آخر لقراءة نصوص جمعة عبدالعليم سيحاول هو نفسه ، ويجعلنا نحاول معه ، أن يتلمس مكونات ذاته الراهنة عبر إعادة اكتشاف تاريخها ، أليس لكل ما يحس به الآن بذرة في الذاكرة ؟
في قصيدة (حفريات طفولية) والتي حسب مضمونها كان من المفترض أن تسمّى (حفريات الطفولة) ، في ذهه القصيدة يطرح إشكاليات التكوين ، وآليات التنشئة ضمن علاقات قاسية .. أو ضمن إطار تتراجع فيه القيم وفق شرطها الإنساني أو على الأقل هكذا يبدو .. تقول القصيدة :
(انتصف الليل
أتلمس المقابض الصدئة
أفتح أبواباً مشوشة
نباح .. عواء.. ونعيق
أمطار تسقط فوق أسطح من صفيح
عراك ودموع
وخوف يتشبث بقوائم الكوخ
………………..
انتصف الليل
استيقظ الحزن
جداول ملوثة بقطط ميتة
حقيبة متهرئة
أرجل تنتعل البرد والحصى
ويد غليظة تهوي على مؤخرة الرقبة
كانت أمي
حين يغربلها السباب
وتعجنها اللعنة
تتكور تنوراً .. على التنهدات
ولم تكن سيجارة أبي
في تلك الليلة
تكف عن الاشتعال
تومض لحظة التقائها بسحب بيضاء
ثم تنطفئ في صدره المحترق
………………..
انتصف الليل
ومصارعة الطلاسم
أمام فتيلة معمدة بالكيروسين
والمشاوير الصباحية الراكضة
اتقاءً لعصاة الزيتون
المحفور على جوانبه
العصا لمن عصى
ونقش الأصابع القاسية
على وجوه يصقل حمرتها
برد بيت ثامر القارص
………………..
كانت أمخي تحملني كل يوم
بإفطاري الصباحي
مغموساً بدعواتها الرطبة
وتتحايل على صديقي الأكبر سناً
كي يحمل عني الأسفار التي
لا أفقه عنها شيئاً)
إذا تناولنا هذا النص فهناك ما يقال عنه . السرد حتى التقرير أحياناً ، المعطوفات المتجانسة والمتطابقة أحياناً العرض الفوتوغرافي للصور و (الإبطاء) في فعله الأفقي .. ولكن من جانب آخر فإن هذه الحفريات كانت تتوخى الدقة والموضوعية وهذا الإيقاع المشهدي الصاخب الذي لا يهدأ إلا حين تدخله الأم يطرح المشاهد القاسية في إطار اتهامها أو إدانتها ، لذلك يرسمه بدقة من يرسم وجه مجرم هارب ومطلوب من العدالة ، هل هذا يبرر القصور الفني .. (لا أعتقد ذلك) .
إذا فلنتتبع هذا الخراب المتناسل وهذا السيناريو المرعب الذي ينبثق من مخزون الذاكرة : مقابض صدئة ـ نباح عواء ـ نعيق ـ عراك دموع ـ خوف ـ جداول ملوثة ـ قطط ميتة ت حقيبة مهترئة ـ كل ذلك كان لابد أن يفضي إلى يد تهوي على مؤخرة الرقبة ، وكان أيضاً على تنهدات الأم المعجونة بالسباب واللعنات أن تتحول إلى خبزه الحاف .. نعم خبزه القاسي .. ويظل التضاد بين الأم التي تتحول إلى تنورا يحترق جوفه من أجل رغيف والأب الذي يحترق جوفه مجاناً من جراء سيجارة تومض طيلة الليل ، يظل هذا التضاد مرتكزاً لذات تتشكل ضمن التناقضات ولإيقاع تبادلي في النص ، إن هذا الاجترار من جانبي قد يكون مملاً لمفردات القصية ليس فقط لمجرد إطالة المشاركة لأنني أتورط في الكتابة عن صديق .. ولكنني أحاول أن أعيد .. لأكتشف معه دروب القسوة التي جعلته عاجزاً وجعلته في نفس الوقت شاعراً .. هذا الماضي الذي أفضى إلى راهن للشاعر يستشرف من خلاله ضباب الغد والذي يقدم في قصائده في سياق لا يخلو من الشكوى والمكابدة حيث إمكانات الحلم تضيق وحيث المشقة درب لديه لاغتيال المخيلة وبالتالي لاغتيال القصيدة .. ففي قصيدة (عجز) مثلاً التي تعكس الراهن يقول محاولاً أن يعرفنا بنفسه :
(هل لديكم مزيد من الوقت
لأعرفكم بي
هو ذا أنا
كما أرادني أبي
أعمل ساعات ثمان
وأنام مثلها
أراوغ عبء العائلة
وأتسلل إلى جادة الليل
فيمنحني بياضاً
فوق طبق من الشهوة
وقلماً يسيل لعابه
عند أول اللمس)
يقدم نفسه واقعاً أو نتيجةً بالضبط كما أراده أبوه .. السلطة الأولى في تكوينه حيث موت الخيار والمبادرة أرض لولادة العجز والقلق المصوب إلى كثير من القيم .. وبعد يوم ضاج يخلد مثل قريته إلى ليل هادئ … ورقة مستسلمة وقلم متحفز يوردها الشاعر في سياق يوحي بالفعل الجنسي .. طبق من الشهوة ـ عند أول اللمس ـ غرفة النوم .. ليصل على مأزق القصيدة والشاعر في النهاية :
(عند أول اللمس
متشحاً بالوحدة
أعصر شهوة الكلام لمزيد من العجز )
إنه الراهن المرتبك وما أفضى إليه من عجز يأتي دائماً كمرادف لسؤال بلا إجابة .. أو لحظة توجس أكبر من اللغة ، لقد قال لنا جمعة عبدالعليم بأنه عاجز عن كثير من الأشياء ، لكنه هذا المساء لم يكن عاجزاً على أن يجمعنا حول شعره ..
وأخيراً فهذه محاولة لإنشاء حوار مع قصائد الشاعر التي تقدم ذاتاً مبدعة في ذروة علاقتها الإشكالية مع المحيط ومع التاريخ الشخصي .. هذا الجدل الذي سيكون زاخراً بالأسئلة والمعادلات الصعبة .. حيث لا تخلو قصائد جمعة عبدالعليم من بناء رياضي نسبة للرياضيات يمكنه أن يكون موضع ورقة أخرى …

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق