27 فبراير 2009

جمعة عبدالعليم يكتشف نفسه من جديد !




رغم المفارقة المعروفة بين الاتجاهين الرومانسي والواقعي إلا أن في أشعار جمعة عبد العليم تمازجا واضحا من هذا النوع، فرغم ما عُرف عن الاتجاه الرومانسي من قـُربٍ إلى الاحتمالات والتوهم أكثر منه إلى العقل والمنطق إلا أن في شعر عبد العليم نصيباً وافراً من الواقعية ؛ فهو لا يهيم في ضبابية الشعر، بل أشعاره تتناسب مع العقل وتبتعد عن الوهم، ومن ثمَّ فهي واقعية ورومانسية معا وحسب اطلاعنا على نتاج كثير من الشعراء فقد وجدنا تمازجا واسعا بين المدارس الأدبية في أشعار العقدين المنصرمين بصفة خاصة، فلم تعد القصيدة تقليدية خالصة ولا رومانسية أو واقعية وإنما قد تجتمع كل هذه المدارس الأدبية في أسلوب واحد وفي قصيدة واحدة، حتى وهي تجتاز عاصفة سريالية فرضتها الظروف على أفكار المبدع.
هذه القصيدة "بما يكفي" تحمل شتاتاً مثقلا من قناعات الرجل الناضج الذي عاش بما يكفي أن يعرف، نعم، (بما يكفي) هذه العبارة التي اتخذها لازمة يستنهض بها ما يعتنق من القناعات التي آمن بها.. فالرجل عاش بما يكفي أن يقول وأن ينصح وأن يأخذ القرار بنفسه، عاش بما يكفي للتعرف على ملذات الحياة، عاش بما يكفي للتعرف على الغث والسمين.. ولعل الشاعر اختصر كل ذلك في تلك المقدمة التي أعرب فيها عن نفسه ليظهر بأنه معتدُّ بهذه النفس واثقٌ بها :

أنا ناضج بما يكفي
لأكتب قصيدتي
(كن نفسك تختزل العالم)
فعلى الرغم من قصر تلك المقدمة إلا إنها تبيّن تصميما قاطعا لا يقبل الشك بدليل أنه لا يكتفي بما يؤمن به بل يدعو الآخرين إلى ذلك التصميم والتمسك بإيمانه الفكري.. كما تحمل هذه المقدمة تشفيرا وإيجازا شديداً لأشياء كثيرة يريد قولها (عبدالعليم) : (كن نفسك تختزل العالم) هذه العبارة الفلسفية لم يقدمها على طبق من ذهب لكي يتمتع بها أصحاب الخيال الدوني وإنما هي تعبير غير مباشر عن رسالة نفسية مستترة، مرسلة إلى فكر أعمق يحلل ما بها من تكثيف وتعدد للرؤى.
قصيدة (بما يكفي) تعتبر نسجا جديدا لجمعة عبد العليم، تحسّ معها بأنه دخل في جوٍّ من البهجة بعد أن كانت قصائده في ديوانه الأول (عصيان الكلام) يسيطر عليها التردد والقلق وفقدان الأمل والإحباط.. فنراه يصرّح أحيانا بواقعية لا تدع مجالا للشك، ضاجّاً من ظروف الحياة وقسوتها فيقول :
هل تسمحون لرجل
في الأربعين
أن يقول قصيدته
هو محبط جداً
زوجته تسرقها الأمومة
أبناؤه يقلقون خلوته
(1)
وأحيانا أخرى نراه يصرّح بالرمز عن اجتياز الآخرين له، من سلكوا طرقا معوجة للوصول إلى حقوقهم وحقوق غيرهم، وهو يقصد بمن يدعون بالتماسيح أو القطط السمان كما يسميهم البعض، كناية عن نهَّابي هذا العصر واستلائهم على كل حق وباطل من أمام الفئة المتأنية الصابرة :
الذين جرَّدوا البحر من أمواجه
والليل من أحلامه
والأشجار من أوراقها
ربما سافروا قبلك من سنين
(2)
لقد ترك جمعة عبد العليم تلك النغمة الحزينة وألبس شعره ثوبا جديدا من القوة النفسية، هذه القوة رفعت من معنوياته وجعلته يدوس على السفاسف والخواطر الحزينة التي كانت تكبله وتـُشعِره بالإحباط وتعيقه عن الطموح وتجدُّد الأمل ..
أنا صابر بما يكفي
لأبتلع سماجة اليوم
وأتنفس في هذا الخَواء
لأحتمل هجر الأصدقاء
وانشغال الزوجة
وقسوة الأولاد
إنها انطلاقة جديدة لجمعة عبد العليم، تحسُّ بأنه قد ضرب مشاكله القديمة بعرض الحائط وألقاها وراء ظهره فلا عودة لها، فليحتمل هجر الأصدقاء ويحتمل انشغال الزوجة عنه ويحتمل قسوة الأولاد، ويندرج ذلك على كل المشاكل القديمة إلا ثلاثة مواقف لن ينساها، تتراءى له من بعيد كلما أراد أن يبتهج، إنها : ( لقهر امرأة / وإذلالها بالزواج ) و (لِـيُــتْمِ طفلة / تجرعته باكرا / فصبغ حياتها بالزهد )، هذين الموقفين هما في أغوار نفسه البعيدة، من خصوصياته المسكوت عنها التي تلكمه من حين لآخر.. أما الموقف الثالث فهو (غابة تئن / تحت وطأة المعاول).. وهنا تبرز مفارقة ؛ فالرجل يحب الغابة، يحب من الطبيعة براءتها.. كذلك الرومانسيون يحبون من الطبيعة أن تعبَّر عن نفسها.. فلا يخفون هوجسهم بالغابة المتشابكة وبالأمطار الغزيرة والأمواج العاتية والرياح القوية.. ولكنه يكره الريح ففي باب :
أنا صادق بما يكفي
لأن أقول
بأنني أكره الريح والجند...

ربما قصد الريح المدمرة وليس الرياح التي تدغدغ الأفكار وتغنّى بها الشعراء والتمسوا منها إيصال السلام المفعم بالعشق إلى حبيباتهم البعيدة.. وعلى العموم أنا مبتهج أيضا بهذه الانطلاقة الجديدة لجمعة عبد العليم ؛ ذلك لأني أعلم بأنه على الرغم مما يقوله عن نفسه في أشعاره من وجود مصدات وعوائق تقف عثرة في طريقه إلا إني أعرفه شخصا ممتعا، صافي النفس حسن الخلق، تنعم بالجلوس معه والتحدث إليه.

(1) جمعة عبد العليم ـ ديوان عصيان الكلام ـ مجلس الإبداع 2006 ـ ص 27.
(2) المصدر نفسه ـ ص 17.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق